27 - 06 - 2024

تباريح | حبيبتي موحشة

تباريح | حبيبتي موحشة

أرشيف المشهد

21-8-2013 | 21:09

وقعت في غرامها من النظرة الأولى خلال النصف الثاني من عقد السبعينات ، سحرتني بأضوائها المتلألئة، بطيبة أهلها وعشقهم للحياة ، بمجالس السمر على مقاهيها ، وثقافة المشاركين في منتدياتها ، كنت صبيا بدأ وعيه يتفتح ، هنا توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور ونجيب محفوظ ومتولي الشعراوي وأحمد بهاء الدين وزكي نجيب محمود وميلاد حنا ومحمد مستجير وعبد الحليم محمود وفؤاد حداد والأبنودي وصلاح جاهين وسعاد حسني، وعشرات غيرهم من علماء مصر ومثقفيها وسياسييها وأدبائها وفنانيها ، يمكن أن تلتقيهم وجها لوجه ، تناقشهم وتنهل من علمهم ، تنفتح الآفاق أمام الصبي ، فيأسى لحال قريته وأهلها ويتمنى لو كانت مصر كلها القاهرة.

في الجامعة كنت أعجب ممن يحسون بالاغتراب في مدينتي الحبيبة ، وأنا الذي يؤنس وحشتي مجرد السير في شوارعها أو الجلوس على واحد من مقاهيها، كنت أختلف مع صديقي يسري فودة لأنه كتب في قصيدة أيام كان شاعرا رقيقا قبل أن يسرقه التليفزيون " فأنا مذ جئت مدينتكم ضيعت القلب" فقد كانت أيام الجامعة في إعلام القاهرة مواسم فرح. مرت سنوات طويلة وعواصف كثيرة ، اغتربت ، رزت مدنا كثيرة وأقمت فيها ، أعجبتني بعضها ، مدريد وبغداد ودبي والإسكندرية ، لكن عشقي الأول ظل على حاله .. القاهرة أم العواصم ودرة التاج ، مؤنسة الوحشة ، كل شارع فيها له عبق ، إذا عشت بين جنباتها تحس أنك الدنيا بين أطراف أصابعك.

وفي كل مرة أغترب عنها ، كانت أقصى أمنياتي في الحياة أن أعود لأشم هواءها وأكحل عيني بشوارعها وحواريها وأناسها ، فبها تطيب جراحي ، وأواصل الحياة كأن أحزانا لم تكن.

كثيرا ماتساءلت عن سر العشق ، الشوارع ، الجدران ، المنتديات الثقافية، الحضور الطاغي للمشاهير ، النيل ، الأسبلة والمساجد ، الروح ، البشر الذين يشكلون كتلتها السكانية ، سهولة الحياة ؟ ولم أجد إجابة حتى أيام خلت.

مع بداية حظر التجول أصبحت حبيبتي موحشة ، شوارعها مظلمة إذا ماحلت ساعات الليل ، الناس يختفون بشكل شبه تام كأنهم تحولوا فجأة إلى فئران على نحو ما صورت المبدعة سعاد سليمان في رائعتها "غير المباح" ، كل شيء ظل على حاله النيل يجري وسحر الشوارع باق ، لكن روح المدن هو البشر ، أدركتني الحكمة وعرفت سر العشق.

حبيبتي الآن موحشة ، تشكو ظلامها الذين روعوا وهددوا وقتلوا ومحوا سكينة القاهرة في مشهد تاريخي نادر التكرار. هل ستعود القاهرة يوما لحالها تجتذب عاشقين جددا مثلي؟ أم سيضطر العشاق الأصليين إلى الرحيل بحثا عما افتقدوه . وهل يعوض الرحيل شيئا ؟ لا أظن .. ومن ثم فليس من حل غير أن تجلس بجوار معشوقتك المريضة حتى تتعافي أو تموت معها.

مقالات اخرى للكاتب

تباريح | مصر ليست مجرد أغنية!





اعلان